
الجزائر وموريتانيا.. تحركات سياسية في زمن الارتباك الاستراتيجي
هبة بريس – عبد اللطيف بركة
تشهد السياسة الخارجية الجزائرية في الآونة الأخيرة تحركات مكثفة نحو موريتانيا، آخرها استقبال الفريق أول سعيد شنقريحة، رئيس أركان الجيش الجزائري، لوزير الدفاع الموريتاني حننه ولد سيدي في زيارة تمتد لأربعة أيام.
هذه الخطوة لا يمكن قراءتها خارج سياق أزمات الجزائر الإقليمية والدبلوماسية المتراكمة، والتي تؤشر إلى حالة من التخبط والارتباك، وحتى أزمة “ثقة” بدأت تفرض نفسها على تحركات الدولة الجزائرية في محيطها القاري.
اللقاء الذي غلّف بخطاب رسمي عن “الروابط التاريخية والثقافية” بين الجزائر وموريتانيا، وبأهمية التعاون الأمني المشترك، يأتي بعد أسابيع فقط من التصعيد الخطير الذي شهدته العلاقة بين الجزائر وتجمع دول الساحل (مالي، النيجر، بوركينا فاسو)، نتيجة إسقاط الجيش الجزائري طائرة مسيّرة تابعة لمالي، هذا الحادث لم يكن عرضيًا، بل كشف عمق الهوة بين الجزائر وحلفاء الأمس في منطقة الساحل، التي كانت الجزائر تعتبرها امتدادًا لنفوذها الاستراتيجي، فإذا بها تجد نفسها اليوم في مواجهة دبلوماسية وأمنية حادة مع هذه الدول، التي تتجه شيئًا فشيئًا نحو محاور جديدة، بعيدة عن الجزائر.
وفي هذا السياق، تظهر موريتانيا كخيار بديل تسعى الجزائر لاحتضانه، في محاولة للعودة إلى واجهة التأثير في منطقة غرب إفريقيا، غير أن هذه الخطوة تبدو أكثر اضطرارًا منها استراتيجية، تعكس ارتباكًا في البوصلة الدبلوماسية الجزائرية التي باتت تتعامل مع العزلة المتزايدة في محيطها المباشر بردود فعل متسرعة بدل استراتيجيات مدروسة.
ومن المعطيات اللافتة في هذا التوقيت، أن زيارة وزير الدفاع الموريتاني تأتي في المهلة التي منحتها الولايات المتحدة الأمريكية للجزائر، والتي تمتد لأسبوعين فقط، من أجل دفع جبهة البوليساريو إلى العودة إلى طاولة الحوار والانخراط بجدية في العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة، الضغوط الأميركية، وفق مصادر متقاطعة، حملت تحذيرات واضحة للجزائر من مغبة الاستمرار في عرقلة المسار السياسي، وهو ما يُفسر المساعي الجزائرية لتهدئة الأجواء إقليمياً عبر بوابة نواكشوط.
في السياق نفسه، تروج معطيات تفيد برغبة الجزائر في التفاوض مع السلطات الموريتانية لترحيل جزء من لاجئي مخيمات تيندوف إلى الأراضي الموريتانية، في خطوة تُفَسّر كمحاولة لامتصاص غضب البيت الأبيض، الذي أصبح أكثر تشددًا تجاه استمرار الوضع الإنساني والسياسي القائم في تلك المخيمات، والمرتبط مباشرة بدعم الجزائر لجبهة البوليساريو التي تقترب من دخول خانة ” جماعة إرهابية” دوليا ، بعد العديد من التقارير التي تكشف عن جرائمها تجاه المحتجزين ، وبيع المساعدات الإنسانية، وتهديد الامن الإقليمي.
الأزمة لا تتوقف عند حدود العلاقات مع دول الساحل، بل تمتد إلى ملف الصحراء المغربية ، الذي بات يشكل إحراجًا متزايدًا للدبلوماسية الجزائرية، في ظل دعم متنامٍ للموقف المغربي ومبادرة الحكم الذاتي، خاصة من قبل قوى دولية وازنة كفرنسا والولايات المتحدة وإسبانيا ، فتجديد هذه الدول دعمها الصريح لمغربية الصحراء شكل صفعة جديدة لجنرالات العسكر، التي وجدت نفسها مرة أخرى معزولة في ملف راهنت عليه طويلًا كورقة للنفوذ الإقليمي بل دمرت بسببه تماسك بلدان المغرب العربي وخسرت الملايير من أموال الشعب الجزائري الشقيق .
كل هذه المعطيات تضع الجزائر أمام معادلة جديدة، تفرض مراجعة شاملة لخياراتها الخارجية التي قامت لسنوات على دعم حركات انفصالية ومعاداة الجيران بدل الاستثمار في بناء تحالفات متوازنة ومستقرة، واليوم، تواجه الجزائر نتيجة هذا النهج؛ أزمة ثقة حقيقية، ليس فقط مع جيرانها، بل حتى مع شركائها التقليديين في إفريقيا.
وفي ظل هذا المناخ، تبدو زيارة عسكر الجزائر للشقيقة موريتانيا أشبه بمحاولة لملء فراغ استراتيجي لا تملك الجزائر اليوم أدوات ملائمته، خاصة أن موريتانيا، بعلاقاتها المتوازنة إقليميًا ودوليًا، ليست في وارد الارتماء في أي محور، خصوصًا في سياق الصراعات المغاربية المتأججة.
في النهاية، تبقى التحركات الجزائرية نحو موريتانيا مؤشرًا واضحًا على مرحلة انتقالية تعيشها الجزائر إقليميًا، تتسم بالارتباك وفقدان الحلفاء، ومحاولة يائسة لترميم صورة بدأت تتآكل مع التغيرات الجيوسياسية العميقة التي تعرفها منطقة الساحل وشمال إفريقيا.
تابعوا آخر الأخبار من هبة بريس على WhatsApp
تابعوا آخر الأخبار من هبة بريس على Telegram
تابعوا آخر الأخبار من هبة بريس على X